زمان الكورونا وما بعدها
“من ما توصلت اليه من تحليل سلوك المستهلك فان هذه فرصة القرن للشركة، فإما أن تتم في خلال أسبوع من الآن وإلا فلا للأبد – Now or Never!…”
بهذه الكلمات أنهيت خطابي المرسل في الأول من أبريل عام 2020 لقيادات تلك الشركة الصناعية والتي كانت تعاني من توقف مفاجىء للإنتاج نتيجة لحالة الشلل التي انتابت جميع قطاعات الأعمال في العالم أثر انتشار فيروس كورونا المستجد.
كانت مسؤولياتي الرئيسية في الشركة كاستشاري تسويق هي إدارة عملية التسويق الاعتيادية وطرح المقترحات ومتابعة التنفيذ وتقييم النتائج. ولكن واحدة من تلك المسؤوليات الغير متوقعة كانت إيجاد مخرج وطوق نجاة لشركة أصبحت منتجاتها غير مرغوب بها في ظل تلك الجائحة.
وفي الليلة الأخيرة لشهر مارس أفزعت الكثير منهم باتصالاتي في منتصف الليل بأن قد وجدتها، فهذا هو الوقت المناسب لإنتاج كبائن تعقيم للأفراد. فالناس جميعا في حالة فزع، وهاجس النظافة الشخصية أصبح مبالغًا فيه بشكل غير مسبوق.
وحتى هذا الوقت كانت أقل من 19 شركات على مستوى العالم قد بدأت في إنتاج وترويج كابينة التعقيم، غالبيتهم شركات صينية بالطبع، والعجيب أن نشاطات تلك الشركات كان ما بين تصنيع مواد البناء وأشياء لا تمت لهذا المنتج بصلة.
كان اختياري لهذه الشركة لتصنيع هذا المنتج نتيجة امتلاكها خبرة صناعية متميزة، وعدد من الفنيين المهرة، وأيضَا قاعدة عملاء كبيرة قد تهتم بذلك المنتج.
وكان اشتراطي لنجاح هذا المنتج هو الـ Agility، وهو أن يتم التصميم والتصنيع في غضون 7 أيام. فالمنتج ليس به أي أسرار تكنولوجية ولا تعقيدات في التصميم أو التصنيع، بل هو منتج اللحظة ولن يلبث أن يتزايد المتنافسون، وخاصة أن في كامل ربوع مصر لم تسبقنا إلا شركة واحدة وذلك في التصميم فقط وليس التنفيذ.
بالطبع لم نستطع الالتزام بمدة السبعة أيام، ولكن النتائج كانت مبهرة، فأول كابينة مباعة ذهبت لأهم جهة حكومية في مصر، وهذا كان يعد نجاح مبهر لعملية التسويق والتي بدأت من إيجاد الفكرة مرورًا بتفاصيل عديدة وحتى الوصول إلى أهم العملاء.
——————-
تحليل سلوك المستهلك (هلع الشراء – Panic Buying)
كما ذكرت مرارًا، فالعامل الحاسم في عملية التسويق الحديثة هو القدرة على فهم وتسخير و تحليل سلوك المستهلك أو كما نطلق عليه إدارة سيكولوجية المستهلك. ومن صعوبة هذا الأمر هو تنوع المتغيرات – Variables الواجب وضعها في الاعتبار عند اتخاذ القرار بتصميم رسالة إعلانية أو اقتراح منتج ما أو إجراء تعديل على منتج سواء في التصميم أو السعر أو أسلوب العرض.
وتعتبر حالة الفزع الاجتماعي – Social Panic والتي تتطرأ على مجتمعات بأكلمها بشكل مفاجىء واحدة من أكثر المتغيرات اليسير قرائتها في مراحل متأخرة والتي بالتالي ينتج عنها نزعات شرائية واضحة، مثال ظروف الحروب والكوارث الطبيعية، فهذا يؤدي إلى ظاهرة ما يسمى بشراء هلع الشراء – Panic Buying، وهذا ما ظهر جليًا في خضم الأزمة الصحية الأخيرة.
واحدة من الظواهر التي تتبع هلع الشراء هو ما يسمى بالـ Price Fault، فحساسية المستهلك للسعر تقل، وكذلك قدرته الحسابية لتقييم مقابلة الجودة لمستوى السعر تتضائل، وهذا يُعزى لما ذكرناه في مقالات سابقة أن المسار المسيطر على العقل لاتخاذ القرارات في تلك الأوقات الحرجة هو النظام 1 – System 1، وهو النظام الذي لا يسعى للتمحيص والتدقيق في التفاصيل ولكنه يعني أكثر بالإسراع في اتخاذ القرار والنجاة من المأذق والخروج من موطن الخطورة سريعًا.
الخط الزمني لحالة الهلع
كما شهدنا في في خضم أزمة الكورونا، فإن سلوك الناس في العموم لم يمر بمرحلة واحدة ولكن تنوعت تلك المراحل كما ذكر بحث في مايو 2020 بعنوان،
I’ll trade you diamonds for toilet paper: Consumer reacting, coping and adapting behaviors in the COVID-19 pandemic
أشار الباحثون إلى ثلاث مراحل يتخذها العامة في التعامل مع حالات الفزع المفاجىء وهي كالتالي:
يمكنك الاطلاع علي مقالة السلوك الشرائي :أحمر أم أخضر؟؟ التسويق السيكولوجي .. مهارة المستقبل
1. حالة رد الفعل – Reacting
وهي الحالة التي تحدث في بدايات الأزمة، وتتلخص في فعلين رئيسيين وهما التخزين – Hoarding، والرفض للواقع الجديد – Rejection. فيلجأ الإنسان لتخزين احتياجاته من المنتجات الضرورية عندما يشعر أنه يفقد السيطرة على واقعه وما يحيط به. فيقدر أن مشتريات التجزئة وصلت في بعض البلدان إلى ما يجاوز ال 845% من المعدل الطبيعي.
وكذلك يميل الإنسان لرفض الواقع بمحاولة إنكاره ونفيه وذلك في سعي داخلي لاستعادة الوضع الطبيعي لما قبل الأزمة. ويتمثل ذلك في الرفض المبدأي للعديد من الناس في الامتثال لقواعد الحجر الصحي.
في دراسة بعنوان،
An explorative study of the individual differences associated with consumer stockpiling during the early stages of the 2020 Coronavirus outbreak in Europe
كان الغرض من البحث، تحدي= الميول النفسية بنائ على الـ Big Five (راجع المقالات السابقة) التي تدفع بعض المستهلكين لحالة هلع الشراء وتخزين منتجات قد لا يحتاجوا إلى غالبيتها. فكان نتائج الاستقصاء أن الصنفين من الناس الذين كانو الأكثر اندفاعًا في الشراء وتخزين المنتجات وقت الجائحة، كانو الـ Neurotics، والـ Extroverts. وكان الناس الأقل في ذلك الأندفاع والأكثر تحكمًا في الذات وقت الجائحة كانو الـ Introverts، والـ Conscientiousness.
ومن الملاحظ أن سلوك المستهلك في حالات التخزين أيضًا يمر بعدة مراحل، فأولها وأهمها هي مرحلة حماية الأشخاص الأضعف في نطاق المسؤولية – Vulnerables، فكانت أول البضائع التي نفذت من المتاجر في بلدان عدة كانت حفاضات الأطفال والكبار أيضًا، ثم تأتي مرحلة تأمين الأساسيات من الغذاء كالأرز والبيض والدقيق، ثم مرحلة تأمين مستلزمات الطاقة كمصابيح الطوارىء والبطاريات، ثم مرحلة تأمين الترفيه المنزلي كالأنترنت والاشتراكات المدفوعة للتلفاز.
ثم يأتي تأثير الندرة – Scarcity ليحفذ المرحلة الأخيرة للتخزين، فما أن يتم الإعلان عن قرب نفاد منتج ما وحتى ليس له علاقة بمنتجات المراحل السابقة، فالمستهلك يمتلك دافع أكبر لاقتناء المنتج في الظروف الحرجة مقارنة باندفاعه في الظروف الاعتيادية.
2. حالة التأقلم – Coping
ثم تأتي مرحلة التأقلم والتي فيها يسعى فيها الناس للتعامل مع الأزمة وتخفيف تداعياتها عن طريق ثلاث أشياء رئيسية:
1. تخفيف تأثير التباعد الاجتماعي باللجوء لوسائل تواصل أخرى غير اعتيادية.
2. اللجوء لثقافة اصنعها بنفسك – Do-it-Yourself
3. النظر بأسلوب مختلف للعلامات التجارية
ففي دراسة تمت في 2020 شملت أكثر من 12,000 مستهلك، أقر أكثر من 60% ممن شملهم الاستقصاء أن قراراتهم المستقبلية لاختيار منتج ما سيعتمد على أسلوب تفاعل القائمون على هذه المنتجات مع العملاء خلال فترة الجائحة.
ومن أبرز الأمثلة على هذا، هو ما فعلته الممثلة الأمريكية Draper James التي تمتلك بيت أزياءReese Witherspoon التي أعلنت في أثناء جائحة كورونا على حسابها الخاص على انستجرام أنها ترغب في مكافئة المعلمين على المجهود الاستثنائي الذي يبذلونه في تعليم طلابهم أثناء فترة الحجر الصحي، ولذلك فستقدم لهم ملابس مجانية وذلك عن طريق تسجيل بياناتهم. وذكرت أخيرًا أن العرض ساري حتى نفاذ الكمية.
كانت المفاجأة أن الذين فازوا بالملابس المجانية لم يتجاوزوا الـ 250 فائز، بينما عدد الذين سجلوا بياناتهم تجاوز المليون شخص. وهذا ما أدى لموجة من الانتقادات للمثلة وكذلك لبيت الأزياء والذي اعتبره الكثيرون أنهم استغلوا أزمة كورونا بشكل خبيث لتجميع بيانات العملاء، وهذا ما سيؤدي لذكرى طويلة الأمد للمستهلك وبالتالي نظرة مستقبلية سيئة لهذا المنتج.
اقرأ ايضا مقالة سلوك المستهلك في دول العالم الثالث
مثال آخر، هو موقف شركة أوراسكوم وشركة العربي خلال أزمة كورونا، فالأولى أعلنت بشكل براجماتي حاد أنها بصدد تخفيض أجور العاملين حتى 50%، بينما أعلنت الثانية أنها ستحافظ على المستحقات المالية لدى عامليها كما هي، وستقوم بخطة إعانة مادية للعاملين الأكثر احتياجًا. وهذا ما أدى لموجة انتقادات ونظرة سلبية لأوراسكوم، وعلى الصعيد الآخر، حظيت شركة العربي بدعم واستحسان من الكثيرين.
3. حالة التكيف – Adapting
“كيف ستغير كورونا العالم إلى الأبد؟”
حظت الكلمات السابقة على أكثر من 17 مليون عملية بحث خلال جائحة كورونا.
في أعقاب الحروب والكوارث الطبيعية والأبئة يتوقع الناس حدوث تغيرات عديدة على كافة الأصعدة، منها السياسية، والاجتماعية، وكذلك تغيرات في سلوك المستهلك وظهور منتجات جديدة واضمحلال منتجات أخرى.
فمثلا، زادت بشكل ملحوظ لدى الأباء والأمهات قناعة بأن التعليم المنزلي عن بعد لأطفالهم ليس بالأمر السىء كما كان يعتقدون في السابق، وتزايدت التساؤلات حول جدوى التكلفة المرتفعة للتعليم الخاص التقليدي في ظل التقارب في مستوى الأسلوبين من ناحية الجودة، بالإضافة للإنخفاض الملحوظ في تكلفة التعليم المنزلي.
وكذلك فالعادات المكتسبة خلال فترة الجائحة سيظل لها آثار طويلة المدى ربما تمتد إلى أجيال أخرى. ففي خلال مجاعة الصين الكبرى في ستينيات القرن الماضي التي حدثت في فترة حكم ماو تسي تونغ، أدت تلك المجاعة بالناس لأكل أي شىء يتحرك وتنبض فيه الروح، فأكلو الفئران والحشرات والقطط والكلاب الضالة، وهذا مالم يألفه الشعب الصيني على مر القرون. ولكن بعد انتهاء المجاعة وحتى يومنا هذا استطعم الصينيون هذا النوع من الطعام واستغاسوه وظل متوراثا لأجيال عديدة.
——————-
توقعات تحليل سلوك المستهلك
1. عوامل النجاح في استثمار السلوك المتوقع من المستهلك في خضم حدث ما هو الـ Agility، السرعة الفائقة. فالكثير من الأفكار تتبادر لدى الكثيرين سواء لتطوير أو لتعديل خدمة أو منتج ما، أو حتى لابتكار منتج جديد يتناسب مع الحدث، فالواجب فعله هو تجهيز البنية التحتية التي تمكن من تنفيذ النموذج الأولي – Prototype، في خلال مدة لا تتجاوز الـ 7 إلى 10 أيام حتى وإن امتلأ هذا النموذج بالأخطاء والمشكلات.
2. في بدايات الأزمات دائما ما تحدث حالة من التخبط والشلل الفكري لدى الكثيرين، وهذا ما يؤدي إلى وجود فراغ زمني يجب عليك استغلاله لتوقع الأسواء أو حتى الأفضل من ثم البدء في تصميم الحل الذي يناسب كلا من الحالتين والمغامرة في التنفيذ السريع لكلا الحلين بالتوازي.
3. العادات الصحية من استخدام المنظفات وأدوات التطهير من المتوقع أن تصبح عادة راسخة ستتوارث لأجيال وتؤدي لزيادة في استهلاك تلك المنتجات لفترات طويلة بعد الجائحة. وعلى صعيد آخر ستختفي عادات مكتسبة في فترة الجائحة كالمبالغة في تنظيف الأيدي بالكحول والجل، ففي عام 2010 عند انتشار وباء أنفلونزا الخنازير، انتشرت ثقافة تنظيف الأيدي بالكحول والجل بداخل كل منشأة ولكن مالبث أن اختفت تلك الثقافة بعد شهور من انحسار الوباء وذلك نتيجة للمبالغة في تلك العادة.
4. يُتوقع تقبل المستهلكين بوتيرة متصاعدة للأدوات والمنتجات الرقابية والأمنية، ففي أعقاب حادث 11\9 تقبل الجمهور الأمريكي بنسبة كبيرة إلإجراءات الأمنية الجديدة بالمطارات والتي استمرت لعقدين من الزمان حتى الآن ولم تكن مسبوقة من قبل. بالإضافة إلى ذلك تتعزز قناعة لدى الكثيرين حول العالم أن الصين مصدر الوباء كانت الأنجح في السيطرة المبكرة عليه نتيجة للإجراءات الرقابية الصارمة التي اعتاد عليها الصينيون.
5. في بحث بعنوان،Impact of Covid-19 on consumer behavior: Will the old habits return or die؟
يذكر الباحث قول شهير في علم تحليل سلوك المستهلك بأنه عندما تزول عادة أو احتياج ما فإنه دائمًأ ما يتحول إلى هواية ومصدر للمرح، مثال الصيد، والعناية بالحدائق، والطبخ، إلخ. فربما بعض العادات التي تتطلبها الحجر الصحي وانتشار الفيروس قد تتحول إلى منتج ترفيهي، فربما نرى عارضين الأزياء يروجون للكمامات ولباس الأطباء لعوام الناس.
6. عندما تنتهي الأزمة، لنينسى العميل الموقف الإنساني والعطوف للشركات في خضم الأزمة، فاحرص على إظهار أفضل أساليب التعاون والتعاطف بين منتجك وبين المستهلك.
—————-
—————-
انضم لمجموعة التيليجرام لمعرفة كل جديد عن الـ Consumer Psychology in Marketing، وللحصول على عروض خاصة على الكتب والدورات التدريبية
—————-